النفقة الزوجية في النظام السعودي: متى تُستحق ومتى تسقط

النفقة الزوجية في النظام السعودي: متى تُستحق ومتى تسقط تُعد النفقة الزوجية من المواضيع الأساسية في العلاقات الزوجية، حيث تمثل التزامًا شرعيًا وقانونيًا على الزوج تجاه زوجته. وقد أولاها الفقه الإسلامي والنظام السعودي أهمية كبيرة، بوصفها أحد الحقوق التي تترتب على عقد الزواج الصحيح. وفي ضوء التطور القضائي في المملكة العربية السعودية، تم تنظيم النفقة ضمن نظام الأحوال الشخصية الجديد، وأُدرجت الأحكام المتعلقة بها بصورة واضحة تضمن توازن العلاقة الزوجية، وتحفظ حقوق كل من الطرفين.
تهدف هذه المقالة إلى توضيح مفهوم النفقة الزوجية في النظام السعودي، ومعرفة متى تستحق الزوجة النفقة، ومتى تسقط عنها، مع الإشارة إلى أبرز الأحكام الشرعية والقضائية ذات الصلة، والتطرق إلى الواقع العملي الذي تشهده المحاكم السعودية في هذا السياق.
ابشر بعزك نحن في خدمتك
فقط املئ البيانات
وسوف نتواصل معك
أولًا: تعريف النفقة الزوجية
النفقة لغةً تعني الإنفاق، وفي الاصطلاح الشرعي هي ما يُصرف من مال لتوفير حاجات المعيشة من المأكل والمشرب والملبس والمسكن وما يلحق بها من احتياجات.
أما في النظام السعودي، فالنفقة الزوجية تعني: التزام الزوج بتوفير ما تحتاجه الزوجة من ضروريات المعيشة، بما يتناسب مع حالته المالية، وحالة الزوجة الاجتماعية.
ويشمل ذلك:
- الطعام والشراب.
- السكن اللائق.
- الملابس.
- العلاج والرعاية الصحية.
- مصروفات النظافة الشخصية.
- أجرة الخادمة إذا كانت الزوجة ممن يخدمن عادةً.
وقد أُدرجت هذه الالتزامات في نظام الأحوال الشخصية الذي صدر عام 2022، والذي استند إلى الفقه الإسلامي وأحكام الشريعة.
ثانيًا: أساس النفقة في الزواج الشرعي
في الفقه الإسلامي، النفقة الزوجية تُعد واجبة على الزوج بموجب عقد الزواج الصحيح، شرط أن تكون الزوجة:
- مسلمة أو كتابية (أهل الكتاب).
- مطيعة للزوج في غير معصية.
- مقيمة في منزل الزوجية.
- لم تمتنع عن التمكين الشرعي للزوج (المعاشرة الزوجية).
ويستند هذا الوجوب إلى قوله تعالى:
“الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ” [النساء: 34].
ومن السنة قول النبي ﷺ:
“اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف”.
وبالتالي فإن النفقة واجبة بمجرد قيام عقد الزواج، إذا تحقق التمكين الشرعي.
ثالثًا: متى تُستحق النفقة الزوجية؟
تستحق الزوجة النفقة في الحالات التالية:
1. عند قيام عقد الزواج الصحيح مع التمكين الشرعي
بمجرد أن يتم الزواج الصحيح، ويكون الزوج قادرًا على المعاشرة، وتكون الزوجة مهيأة ومطيعة، فإن النفقة تجب عليه، حتى لو لم تُ consummate العلاقة بعد.
2. إذا طالبت الزوجة بالسكن أو المعيشة مع الزوج ولم يمنحها ذلك
في حال امتناع الزوج عن تمكين الزوجة من السكن أو النفقة، وهي لا تزال في عصمته، فإنها تستحق النفقة حتى لو كانت لم تدخل بعد.
3. إذا حصل انفصال بدون طلاق (هجر بدون مبرر شرعي)
في الحالات التي يهجر فيها الزوج زوجته دون عذر شرعي، ويمتنع عن النفقة، تستحق الزوجة النفقة بأثر رجعي، ويمكنها الترافع أمام المحكمة للمطالبة بذلك.
رابعًا: مكونات النفقة الزوجية في السعودية
النظام السعودي يشمل في النفقة عدة بنود أساسية، تُقاس بحسب المستوى المعيشي لكلا الزوجين، ومنها:
- المأكل والمشرب: الطعام اليومي، المستلزمات الغذائية.
- الملبس: الملابس الصيفية والشتوية حسب المعتاد.
- المسكن: بيت مستقل أو مشترك بحسب العرف.
- الخادمة (إن لزم الأمر): إذا كانت الزوجة مريضة، أو من عائلة لا تخدم نفسها.
- الرعاية الصحية: العلاج والدواء، بما في ذلك تكاليف الحمل والولادة.
خامسًا: تقدير النفقة
لا توجد قيمة ثابتة للنفقة، وإنما يتم تقديرها من قبل القاضي وفقًا لعدة اعتبارات:
- دخل الزوج.
- المستوى الاجتماعي للأسرة.
- عدد أفراد الأسرة (في حالة وجود أبناء).
- الأسعار الجارية في المنطقة.
- التزامات الزوج الأخرى (مثل الديون أو مصاريف أولاد من زواج آخر).
وغالبًا ما يُستعان بتقارير من لجان “بيت المال” أو “الخبراء” لتقدير المبلغ الشهري المناسب.
سادسًا: النفقة المؤجلة والمتراكمة
إذا امتنع الزوج عن النفقة لفترة من الزمن، يمكن للزوجة أن ترفع دعوى وتطالب بـ”النفقة الماضية”، والتي تُحتسب من تاريخ الامتناع.
ويُحكم بها عادة:
- لمدة لا تزيد عن سنتين سابقتين.
- ويتم دفعها إما دفعة واحدة أو بالتقسيط حسب وضع الزوج.
سابعًا: حالات سقوط النفقة الزوجية
1. النشوز
إذا ثبت أن الزوجة “ناشز” — أي خارجة عن طاعة الزوج بدون مبرر شرعي — فإن النفقة تسقط عنها. ويُعد النشوز في النظام السعودي من أبرز الأسباب المؤدية لإسقاط النفقة.
ومن صور النشوز:
- مغادرة بيت الزوجية دون إذن.
- رفض المعاشرة الزوجية بدون عذر.
- الامتناع عن الانتقال إلى مسكن الزوج.
- التعدي على الزوج بالسب أو الضرب.
ولكن لا بد من إثبات النشوز بحكم قضائي قبل إسقاط النفقة.
2. الطلاق البائن
إذا تم الطلاق البائن (أي الطلاق الذي لا يملك فيه الزوج حق الرجعة)، فإن النفقة لا تُستحق إلا في حالة وجود حمل، وتُصرف لها حتى تضع الحمل فقط.
أما في الطلاق الرجعي، فتستحق النفقة طيلة فترة العدة، ما لم تكن ناشزًا.
3. الردة عن الإسلام
إذا ارتدت الزوجة عن الإسلام، فإن عقد النكاح يُفسخ، ولا تستحق بعده نفقة، لأنه أصبح لا ولاية للزوج عليها شرعًا.
4. فسخ النكاح بسبب عيب أو ضرر
إذا فُسخ عقد الزواج بسبب عيب في الزوج أو ضرر لحق بالزوجة، فقد تسقط النفقة حسب ظروف الفسخ.
ثامنًا: رفع دعوى نفقة في المحاكم السعودية
لرفع دعوى نفقة، تتبع الزوجة الخطوات التالية:
- الدخول إلى بوابة “ناجز”.
- اختيار خدمة “صحيفة دعوى”.
- تحديد نوع الدعوى: “نفقة زوجية”.
- إدخال بيانات الزوج، والوقائع، والمطالبة.
- إرفاق المستندات (صك الزواج، البطاقة، إثبات الإعالة إن وُجد).
- تحديد المحكمة (محكمة الأحوال الشخصية).
- حضور الجلسات الإلكترونية أو الحضورية.
وفي حال صدور الحكم، يتم تحويله إلى محكمة التنفيذ لتحصيل المبلغ إجباريًا، إذا امتنع الزوج عن السداد.
تاسعًا: النفقة أثناء النزاع أو الانفصال
حتى في حال وجود خلافات أو رفع دعوى طلاق أو خلع، تبقى النفقة قائمة إلى أن يصدر حكم ينهي العلاقة الزوجية.
وفي الحالات التي تترك فيها الزوجة المنزل لأسباب مشروعة (كالضرب أو الإهانة)، تستمر النفقة لحين إثبات العكس.
عاشرًا: ما الفرق بين النفقة الزوجية ونفقة الأبناء؟
- النفقة الزوجية: تُدفع للزوجة طوال مدة الزواج، وتتوقف عند النشوز أو الطلاق.
- نفقة الأبناء: تبدأ بعد الطلاق وتستمر حتى سن الرشد (الذكور) أو الزواج (الإناث)، وتكون واجبة على الأب بغض النظر عن طلاقه أو زواجه مرة أخرى.
الحادي عشر: موقف المحاكم السعودية من الامتناع عن النفقة
تأخذ المحاكم السعودية قضايا النفقة على محمل الجد، وترى أن الامتناع عنها ظلم بيّن، وقد حكمت بالسجن على بعض الآباء الممتنعين عن النفقة، إضافةً إلى:
- الحجز على الرواتب.
- منع السفر.
- إيقاف الخدمات.
- إدراج المدين في قوائم “سمة” الائتمانية.
الثاني عشر: النفقة في نظام الأحوال الشخصية الجديد
مع إقرار نظام الأحوال الشخصية الجديد في المملكة عام 2022، تم التأكيد على حقوق المرأة والطفل، ومن ذلك:
- إلزام الزوج بالنفقة حتى في حال الخلاف.
- تشديد الإجراءات ضد الممتنعين.
- اعتبار النفقة أولوية في الحقوق المالية.
- منح المحاكم صلاحية تقدير المبالغ وفق الحالة.
الثالث عشر: الأثر الاجتماعي والنفسي لغياب النفقة الزوجية
غياب النفقة الزوجية لا يؤثر فقط على المستوى المادي للمرأة، بل يتعدى ذلك إلى آثار اجتماعية ونفسية قد تكون عميقة ومؤلمة، ومن هذه الآثار:
1. اضطراب الحياة الزوجية
عندما تمتنع النفقة، تشعر الزوجة بالإهمال والتقصير، مما يخلق بيئة مشحونة بالتوتر والقلق، ويفقد الحياة الزوجية توازنها واستقرارها.
2. انعدام الأمان المالي
الزوجة التي لا تحصل على نفقتها تصبح في حالة اعتماد كامل على الآخرين أو على أهلها، ما يُهين كرامتها ويضعف من قدرتها على الاستقلال والاعتماد على نفسها.
3. الضغط على الأسرة الموسّعة
في حالات كثيرة، تعود الزوجة إلى بيت أهلها بسبب تقصير الزوج في النفقة، وهو ما يضع عبئًا جديدًا على الأسرة الموسعة التي قد لا تكون قادرة على تحمل نفقات إضافية.
4. تأثير سلبي على الأطفال
عندما يكون الأب مقصرًا في النفقة على زوجته، فإن ذلك قد يمتد ليشمل الأبناء، ما يؤدي إلى حرمانهم من أساسيات الحياة ويؤثر على نموهم النفسي والتربوي، وقد يترتب عليه انحرافات سلوكية.
5. الإضرار بكرامة المرأة
الزوجة التي تُجبر على المطالبة بحقوقها أمام المحاكم، أو على التذلل للحصول على نفقتها، تعيش حالة من الحرج والضيق النفسي، خصوصًا إذا وُوجهت بالمماطلة والتسويف.
الرابع عشر: أهم الاجتهادات القضائية الحديثة في قضايا النفقة
شهدت المحاكم السعودية في السنوات الأخيرة تطورًا ملموسًا في آلية التعامل مع قضايا النفقة، ومن أهم الاجتهادات القضائية:
1. إقرار النفقة المؤقتة بشكل سريع
في بعض الحالات، تقوم المحكمة بإصدار “أمر مؤقت” يُلزم الزوج بدفع نفقة مؤقتة لحين الفصل النهائي في الدعوى، لتجنب معاناة الزوجة والأبناء.
2. تقدير النفقة بأثر رجعي
قامت بعض المحاكم بالحكم للزوجة بنفقة متأخرة تمتد لأكثر من سنة بناءً على بينات، وهو ما يعكس تفهم القضاء لمعاناة النساء.
3. التوسع في استخدام وسائل الإثبات الحديثة
أصبحت المحاكم تأخذ بالرسائل النصية، والمحادثات على تطبيقات التواصل، وأدلة التحويل البنكي، وشهادات الجيران والمعارف، لإثبات الإنفاق أو عدمه.
4. استعمال التنفيذ الجبري دون تساهل
في حال صدور حكم نهائي بالنفقة، وتمتنع الزوج عن التنفيذ، يتم تطبيق العقوبات التنفيذية بشكل مباشر ودون تأخير، مما يشكل رادعًا فعالًا.
الخامس عشر: علاقة النفقة بالحضانة
في النظام السعودي، لا ترتبط الحضانة بحق النفقة الزوجية، لكن هناك تداخل مع نفقة الأطفال، حيث يُلزم الأب بالنفقة عليهم في حال الطلاق، سواء كانت الحضانة عند الأم أو غيرها.
وفي حال كانت الزوجة حاضنة، فإن النفقة على الأطفال تشمل:
- الطعام.
- التعليم.
- السكن.
- العلاج.
ويجب أن تُحتسب هذه النفقات ضمن الحكم، ولا تعتبر ضمن نفقة الزوجة.
السادس عشر: النصائح الشرعية والقانونية للزوجين بشأن النفقة
للزوج:
- كن وافيًا بحقوق زوجتك، فإن النفقة واجبة وليست منّة.
- تذكر أن النفقة الكريمة تزيد المودة وتُرسخ المحبة.
- احذر من المماطلة، فهي ظلم قد تُسأل عنه يوم القيامة.
- إذا ضاقت بك الأحوال، فصارح زوجتك، ولا تمتنع فجأة عن الإنفاق.
للزوجة:
- طالبي بحقك بالمعروف، وامنحي الفرصة للحوار قبل الترافع.
- إذا كنت مقتدرة ماديًا، ورضيتِ بمساعدة زوجك عند ضيقه، فهو برّ تؤجرين عليه.
- اجمعي أدلتك بهدوء عند التقصير المستمر، ولا تتسرعي في الخصومة.
- تذكري أن الأصل في الحياة الزوجية هو التعاون، لا التنازع.
السابع عشر: مقارنة موجزة بين النفقة في النظام السعودي وبعض الأنظمة العربية
النظام السعودي:
- يُستند إلى الشريعة الإسلامية مباشرة.
- يُشدد على الطاعة مقابل النفقة.
- يستخدم وسائل تنفيذ قوية لإجبار الزوج على السداد.
- يراعي الحالة المالية والاجتماعية.
النظام المصري:
- يُحتسب مقدار النفقة بناءً على “دليل الإثبات” ويُنفذ الحكم بالحبس عند الامتناع.
- يمنح الزوجة نفقة متعة ومؤخر صداق في حالات الطلاق.
النظام المغربي:
- يُشدد على الإنفاق حتى في حالات الخلاف الأسري.
- يعتبر الإنفاق حقًا مقدّمًا على جميع الالتزامات الأخرى للزوج.
ويتضح من المقارنة أن النظام السعودي يتميز بتوازن واضح بين الواجبات والحقوق، واهتمام خاص بالنواحي الشرعية والفقهية.
الثامن عشر: رؤى مستقبلية حول تطوير قضايا النفقة في السعودية
مع تطور النظام القضائي السعودي وتحديث التشريعات، فإن من المتوقع أن تشهد قضايا النفقة تطورات إيجابية، منها:
- إطلاق محاكم أسرية متخصصة بالكامل، تُسرّع من إجراءات قضايا النفقة والزيارة والحضانة.
- استخدام الذكاء الاصطناعي لتقدير النفقة تلقائيًا بناءً على دخل الزوج والموقع الجغرافي.
- إيجاد صندوق دعم حكومي لصرف النفقة للزوجة مؤقتًا لحين تحصيلها من الزوج.
- تفعيل دور الوساطة الأسرية الإلزامية لحل النزاع قبل اللجوء إلى المحكمة.
الخاتمة
النفقة الزوجية في النظام السعودي تمثل واحدة من أهم الركائز التي تُبنى عليها الحياة الزوجية، وهي ليست مجرد أرقام تُدفع أو مطالب تُرفع، بل هي انعكاس للتكافل والرحمة والعدالة التي أمر بها الإسلام. وقد أرسى النظام السعودي قواعد واضحة لضمان هذا الحق، مستندًا في ذلك إلى الشريعة الإسلامية، ومراعيًا للظروف الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة.
من المهم أن يُدرك الزوج أن النفقة واجب لا يحق له التخلف عنه، وأن إهمالها قد يؤدي إلى آثار خطيرة على الزوجة والأسرة والمجتمع. كما يجب أن تكون الزوجة على دراية بحقوقها، وتسعى إليها عبر الوسائل المشروعة دون تعنت أو استعجال.
إن بناء علاقة زوجية مستقرة يبدأ من الوفاء بالحقوق، وأداء الواجبات، والتعاون على البر والتقوى، والبعد عن الظلم والتقصير. ومتى تحقق هذا التوازن، فإن الأسرة تكون مهيأة لأن تُصبح نواة صالحة لمجتمع متماسك ومزدهر.